هل هي حالة تونسية خاصة؟ هل هي الثورة التي تراخت مواعيدها ضد حكم الجنرال زين العابدين بن علي؟ أم أنها آيات الغضب الساطع الآتي عربيا، ومن تونس هذه المرة، وببركة دم الشهداء الذين سقطوا بالرصاص الحي في مدن القصرين والرقاب وتالة، وبمخاطرة الشهيد الشاب محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه في ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على البطالة والقمع والظلم، وافتتح باسمه الجليل واحدة من أعظم انتفاضات التاريخ .
بالطبع، لا تبدو تونس حالة خاصة، بل هي النمط المعمم عربيا، وإن لم يبدأ في تونس، بل بدأ في مصر، ثم سرى بالتأثير السلبي الصادم في مشارق ومغارب المعمورة العربية، ففي البدء، وحتى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، كانت نظم الحكم العائلي محصورة في بلدان الخليج، حيث يقل عدد السكان، وتتزايد عوائد البترول بما يطمس التناقضات، بينما كانت نظم الحكم العائلي في القلب العربي المزدحم على حافة الخطر، وكان ملك الحسين في الأردن والحسن في المغرب على كف عفريت، وكانت نظم الحكم العائلي تعيش على دعم واشنطن، وقبلها دعم لندن وباريس، كان ذلك زمن النهوض الـــــقومي العربـــي بدفع من ثورة عبد الناصر، ومع الانقلاب على خط عبد الناصر بعد حرب 1973، تداعى حكم النخب العقائدية والعسكرية التي امتازت بالعداء الحازم للاستعمار والصهيونية، وبتجارب تنمية وتصنيع مؤثرة وبحراك اجتماعي واسع الخطى، وبنظم لعدالة التوزيع والضمانات الاجتماعية، وإن كان ينقصها بالطبع العسكري، ضمان ديمقراطي يكفل الحريات العامة، وتجور على إنجازاتها ممارسات أمنية خشنة، وانتهاكات مفزعة لحقوق الانسان، بدت من طبع الثورات، التي تحول بعضها إلى ديكتاتوريات دم مسفوح خاصة في المشرق .
وفي لحظة فوات وضياع مذهل، بعد حرب أكتوبر 1973 بالذات، كان بندول تاريخنا يهوى بتدرج إلى خط الصفر، ثم إلى ما تحت الصفر، فقد خذلت السياسة حد السلاح المنتصر بنتائج حرب 1973، وتحول النصر العسكري ـ بانقلابات السياسة ـ إلى هزيمة تاريخية شاملة، وبدت ريح البترول الأسود كأنها تغمر رؤوسنا ونفوسنا بالقار والعار، وتمد نفوذ واشنطن إلى قصور الحكم في عواصمنا جميعا، وتخرجنا من حركة التاريخ الفوارة في الثلاثين سنة الأخيرة، التي خلقت عالما جديدا متسعا لنهوض عارم في أمريكا اللاتينية وفي آسيا العظمى، وعند جوارنا الأقرب في تركيا وإيران، فيما سقطنا نحن في ثقب الركود الأسود، وخرجنا بالجملة من سباق النهضة، فقد كانت مصر مثلا، حتى حرب 1973، رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التصنيع والاختراق التكنولوجي والتنمية والتقدم، وصارت مصر الآن، ذيلا بذيل مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، وقس ما جرى في مصر على تجارب عربية كانت أقل نهوضا، ولم يكن فيها الأثر الدراماتيكي لزعامة بحجم جمال عبد الناصر، فقد تغير تكوين النخب الحاكمة، وصارت مزيجا من فوائض البترو- دولار ورجال المخابرات الدولية وجماعات النهب العام، وسرت نغمة التكفير بالعروبة والوحدة والتقدم، والإيمان الرسمي بالاستسلام الكامل لإسرائيل، ومغادرة مقاعد التصنيع والانتاج، وتفضيل اقتصاد الخدمات والريع على الطريقة الخليجية، وكان لا بد أن تزحف معها نظم الحكم العائلي من وراء القناع الجمهوري .
هكذا تكونت الصورة الجديدة، وعلى مراحل انهيار متلاحقة، فلم تعد من نزعات تقدمية مقابل الركود الرجعي، بل صار الكل رجعيين وبامتياز، موالين لواشنطن ومحبين لإسرائيل، وعائليين احتكاريين، حتى إن لبسوا البذلات الحديثة بديلا عن الدشداشة الخليجية التقليدية، وحتى إن تظاهروا بقبول تعددية سياسية من نوع خاص جدا لا تنطوي، لا في الحال ولا في الاستقبال، على إمكانية تداول السلطة، تعددية مصنوعة بالأمر الإداري، ومحكومة تماما بالنطاق الأمني، ومنزوعة السياسة بالجملة، أو تبدو، في أحسن الأحوال، كأكشاك سجائر على رصيف السياسة، فقد جرى حظر السياسة وكتم أنفاس المجتمع، وتحطيم النقابات المهنية والعمالية والفلاحية، وإلحاقها بجهاز الأمن الداخلي الذي تضخمت قوته وتضاعف عدده، وأخذ من رصيد الجيوش التي هزلت، ووضع تسليحها تحت الرقابة الأمريكية المباشرة، بما لا يجعلها قادرة على صراع ولا سباق سلاح مع العدو، بل يجعلها مجرد رصيد إضافي لقوات الأمن الداخلي، ففي مصر مثلا، دفع المصريون من قوتهم وأعصابهم لبناء جيش المليون جندي على جبهة الحرب مع إسرائيل في 1973، ومع انقلابات التاريخ الساخر، صار لدى النظام المصري الآن قوة أمن داخلي قوامها مليون و700 ألف شخص، أي ثلاثة أمثال حجم الجيش، تخوض حروب التخويف والإرهاب على جبهة الصدام مع الشعب المصري، ومثل ذلك جرى في جمهوريات الثورات التي صارت ملكيات، وعملت كلها بالتقليد المصري في إطلاق التمديد الرئاسي إلى أبد عزرائيل، وبالتزوير الشامل للانتخابات العامة، وتحويلها إلى 'انتخابات مشفرة'، وتعيينات ومواسم بيزنس وأفلام كارتون، وتحويل البرلمانات إلى 'زوائد دودية' لسلطات التنفيذ الأمني، بحيث صارت نظما بغير مجمع انتخابي داخلي، وبمجمع انتخابي افتراضي تمثله الرعاية الأمريكية والإسرائيلية، والفرنسية أحيانا، وبإحلال الحكم العائلي المحض، وبحيث صار لكل رئيس (ملك) وريثه العائلي، الذي يشرف غالبا على توزيع فوائض النهب العام، وتعيين الاتاوات والعمولات، ويستعد لخلافة أبيه، ويتكفل بدورة تجديد مماليك البيزنس والسياسة والإعلام من حول بيت السلطان.
والمحصلة، صورة حكم طبق الأصل المصري، ومع تفاوت في التفاصيل، وتطابق في التكوين العام، ففي بغداد قبل نهاية حكم صدام كانت ظاهرة ابنيه قصي وعدي، وفي دمشق خلف الرئيس بشار أبيه حافظ الأسد، وفي القاهرة صعدت ظاهرة جمال مبارك، وفي ليبيا تضخمت ظاهرة سيف الإسلام القذافي، وفي صنعاء ظاهرة أحمد ابن الرئيس علي عبد الله صالح، وفي العواصم التي تعذر فيها استنساخ الأبناء بأقدار القسمة والنصيب، كان الشقيق حاضرا على طريقة سعيد بوتفليقة في الجزائر، وفي تونس كان الدور محجوزا للسيدة ليلى زين العابدين، وفي الحالات كلها يكون الخلفاء الموعودون شركاء للآباء الحاضرين، وفي صورة رئاسة مزدوجة للأب والابن، وفي حالة مصر بدت الرئاسة تثليثا، وشراكة، بغير التساوي، للأب والابن والأم، وانتهت الأوضاع كلها إلى الصورة التالية للحكم، رأس عائلي معلق، ومن حوله بطانة من مماليك البيزنس وجنرالات الأمن، وبلا قواعد اجتماعية ولا سياسية، وبايديولوجيا الشفط والنهب العام، واستنادا لعصا الكبت الأمني العام، فيما بدت الشعوب غائبة كليا عن الصورة، وأقرب لغبار بشري يطحنه الغلاء والفقر والبطالة، تعيش محن الاقتصاد المنهوب الريعى الهش، وتمارس فقط بطولة و'أكروبات' البقاء على قيد الحياة، وتعاني السحق والتهميش الغالب في ممالك الصمت العائلي.
ومن هذه الزاوية الأخيرة بالذات، ومع ضغط أزمات الاقتصاد الدولي على اقتصاداتنا الريعية المنهوبة، وارتفاع أسعار الغذاء عالميا، وتضاعف فواتير الاستيراد، والتهاب السطح الاجتماعي المحتقن بشدة، تبدو انتفاضة تونس البطلة اختراقا هائلا للصمت، صحيح أنه سبقتها اختراقات جرت في مصر، توالت مشاهدها السياسية والاجتماعية على مدى خمس سنوات خلت، وإن بدت متقطعة، تطفو وتخبو، وصحيح أنه لحقتها هبة الجزائر في مظاهرات الزيت والسكر الأخيرة.
وإن بدت عنيفة بطبع الجزائريين الملتهب، لكن انتفاضة تونس هي الأطول زمنا والأبعد مدى، ربما لأن قطاعات في 'الاتحاد التونسي للشغل' ظلت محصنة ضد التغول الأمني، ومزجت دواعي الغضب الاجتماعي بدواعي الغضب السياسي، ثم جاء الدم الشهيد ليزيل الغشاوات عن الأبصار، ويتصاعد بالعصيان السلمي إلى ذروة أعلى، وأيا ما يكون مجرى الحوادث اللاحقة، فلن تعود تونس لما كانت عليه أبدا، ثم ان شرارة تونس تشعل النار في هشيمنا جميعا، ولسبب ظاهر، وهو أنه حتى الحياة الذليلة لم تعد ممكنة، وفي بيئة اليأس الطاغي، يصبح الموت صرختنا الأخيرة، وطاقة العبور لحياة تليق، وعلى طريقة الشهيد محمد البوعزيزي.
بالطبع، لا تبدو تونس حالة خاصة، بل هي النمط المعمم عربيا، وإن لم يبدأ في تونس، بل بدأ في مصر، ثم سرى بالتأثير السلبي الصادم في مشارق ومغارب المعمورة العربية، ففي البدء، وحتى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، كانت نظم الحكم العائلي محصورة في بلدان الخليج، حيث يقل عدد السكان، وتتزايد عوائد البترول بما يطمس التناقضات، بينما كانت نظم الحكم العائلي في القلب العربي المزدحم على حافة الخطر، وكان ملك الحسين في الأردن والحسن في المغرب على كف عفريت، وكانت نظم الحكم العائلي تعيش على دعم واشنطن، وقبلها دعم لندن وباريس، كان ذلك زمن النهوض الـــــقومي العربـــي بدفع من ثورة عبد الناصر، ومع الانقلاب على خط عبد الناصر بعد حرب 1973، تداعى حكم النخب العقائدية والعسكرية التي امتازت بالعداء الحازم للاستعمار والصهيونية، وبتجارب تنمية وتصنيع مؤثرة وبحراك اجتماعي واسع الخطى، وبنظم لعدالة التوزيع والضمانات الاجتماعية، وإن كان ينقصها بالطبع العسكري، ضمان ديمقراطي يكفل الحريات العامة، وتجور على إنجازاتها ممارسات أمنية خشنة، وانتهاكات مفزعة لحقوق الانسان، بدت من طبع الثورات، التي تحول بعضها إلى ديكتاتوريات دم مسفوح خاصة في المشرق .
وفي لحظة فوات وضياع مذهل، بعد حرب أكتوبر 1973 بالذات، كان بندول تاريخنا يهوى بتدرج إلى خط الصفر، ثم إلى ما تحت الصفر، فقد خذلت السياسة حد السلاح المنتصر بنتائج حرب 1973، وتحول النصر العسكري ـ بانقلابات السياسة ـ إلى هزيمة تاريخية شاملة، وبدت ريح البترول الأسود كأنها تغمر رؤوسنا ونفوسنا بالقار والعار، وتمد نفوذ واشنطن إلى قصور الحكم في عواصمنا جميعا، وتخرجنا من حركة التاريخ الفوارة في الثلاثين سنة الأخيرة، التي خلقت عالما جديدا متسعا لنهوض عارم في أمريكا اللاتينية وفي آسيا العظمى، وعند جوارنا الأقرب في تركيا وإيران، فيما سقطنا نحن في ثقب الركود الأسود، وخرجنا بالجملة من سباق النهضة، فقد كانت مصر مثلا، حتى حرب 1973، رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التصنيع والاختراق التكنولوجي والتنمية والتقدم، وصارت مصر الآن، ذيلا بذيل مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولي، وقس ما جرى في مصر على تجارب عربية كانت أقل نهوضا، ولم يكن فيها الأثر الدراماتيكي لزعامة بحجم جمال عبد الناصر، فقد تغير تكوين النخب الحاكمة، وصارت مزيجا من فوائض البترو- دولار ورجال المخابرات الدولية وجماعات النهب العام، وسرت نغمة التكفير بالعروبة والوحدة والتقدم، والإيمان الرسمي بالاستسلام الكامل لإسرائيل، ومغادرة مقاعد التصنيع والانتاج، وتفضيل اقتصاد الخدمات والريع على الطريقة الخليجية، وكان لا بد أن تزحف معها نظم الحكم العائلي من وراء القناع الجمهوري .
هكذا تكونت الصورة الجديدة، وعلى مراحل انهيار متلاحقة، فلم تعد من نزعات تقدمية مقابل الركود الرجعي، بل صار الكل رجعيين وبامتياز، موالين لواشنطن ومحبين لإسرائيل، وعائليين احتكاريين، حتى إن لبسوا البذلات الحديثة بديلا عن الدشداشة الخليجية التقليدية، وحتى إن تظاهروا بقبول تعددية سياسية من نوع خاص جدا لا تنطوي، لا في الحال ولا في الاستقبال، على إمكانية تداول السلطة، تعددية مصنوعة بالأمر الإداري، ومحكومة تماما بالنطاق الأمني، ومنزوعة السياسة بالجملة، أو تبدو، في أحسن الأحوال، كأكشاك سجائر على رصيف السياسة، فقد جرى حظر السياسة وكتم أنفاس المجتمع، وتحطيم النقابات المهنية والعمالية والفلاحية، وإلحاقها بجهاز الأمن الداخلي الذي تضخمت قوته وتضاعف عدده، وأخذ من رصيد الجيوش التي هزلت، ووضع تسليحها تحت الرقابة الأمريكية المباشرة، بما لا يجعلها قادرة على صراع ولا سباق سلاح مع العدو، بل يجعلها مجرد رصيد إضافي لقوات الأمن الداخلي، ففي مصر مثلا، دفع المصريون من قوتهم وأعصابهم لبناء جيش المليون جندي على جبهة الحرب مع إسرائيل في 1973، ومع انقلابات التاريخ الساخر، صار لدى النظام المصري الآن قوة أمن داخلي قوامها مليون و700 ألف شخص، أي ثلاثة أمثال حجم الجيش، تخوض حروب التخويف والإرهاب على جبهة الصدام مع الشعب المصري، ومثل ذلك جرى في جمهوريات الثورات التي صارت ملكيات، وعملت كلها بالتقليد المصري في إطلاق التمديد الرئاسي إلى أبد عزرائيل، وبالتزوير الشامل للانتخابات العامة، وتحويلها إلى 'انتخابات مشفرة'، وتعيينات ومواسم بيزنس وأفلام كارتون، وتحويل البرلمانات إلى 'زوائد دودية' لسلطات التنفيذ الأمني، بحيث صارت نظما بغير مجمع انتخابي داخلي، وبمجمع انتخابي افتراضي تمثله الرعاية الأمريكية والإسرائيلية، والفرنسية أحيانا، وبإحلال الحكم العائلي المحض، وبحيث صار لكل رئيس (ملك) وريثه العائلي، الذي يشرف غالبا على توزيع فوائض النهب العام، وتعيين الاتاوات والعمولات، ويستعد لخلافة أبيه، ويتكفل بدورة تجديد مماليك البيزنس والسياسة والإعلام من حول بيت السلطان.
والمحصلة، صورة حكم طبق الأصل المصري، ومع تفاوت في التفاصيل، وتطابق في التكوين العام، ففي بغداد قبل نهاية حكم صدام كانت ظاهرة ابنيه قصي وعدي، وفي دمشق خلف الرئيس بشار أبيه حافظ الأسد، وفي القاهرة صعدت ظاهرة جمال مبارك، وفي ليبيا تضخمت ظاهرة سيف الإسلام القذافي، وفي صنعاء ظاهرة أحمد ابن الرئيس علي عبد الله صالح، وفي العواصم التي تعذر فيها استنساخ الأبناء بأقدار القسمة والنصيب، كان الشقيق حاضرا على طريقة سعيد بوتفليقة في الجزائر، وفي تونس كان الدور محجوزا للسيدة ليلى زين العابدين، وفي الحالات كلها يكون الخلفاء الموعودون شركاء للآباء الحاضرين، وفي صورة رئاسة مزدوجة للأب والابن، وفي حالة مصر بدت الرئاسة تثليثا، وشراكة، بغير التساوي، للأب والابن والأم، وانتهت الأوضاع كلها إلى الصورة التالية للحكم، رأس عائلي معلق، ومن حوله بطانة من مماليك البيزنس وجنرالات الأمن، وبلا قواعد اجتماعية ولا سياسية، وبايديولوجيا الشفط والنهب العام، واستنادا لعصا الكبت الأمني العام، فيما بدت الشعوب غائبة كليا عن الصورة، وأقرب لغبار بشري يطحنه الغلاء والفقر والبطالة، تعيش محن الاقتصاد المنهوب الريعى الهش، وتمارس فقط بطولة و'أكروبات' البقاء على قيد الحياة، وتعاني السحق والتهميش الغالب في ممالك الصمت العائلي.
ومن هذه الزاوية الأخيرة بالذات، ومع ضغط أزمات الاقتصاد الدولي على اقتصاداتنا الريعية المنهوبة، وارتفاع أسعار الغذاء عالميا، وتضاعف فواتير الاستيراد، والتهاب السطح الاجتماعي المحتقن بشدة، تبدو انتفاضة تونس البطلة اختراقا هائلا للصمت، صحيح أنه سبقتها اختراقات جرت في مصر، توالت مشاهدها السياسية والاجتماعية على مدى خمس سنوات خلت، وإن بدت متقطعة، تطفو وتخبو، وصحيح أنه لحقتها هبة الجزائر في مظاهرات الزيت والسكر الأخيرة.
وإن بدت عنيفة بطبع الجزائريين الملتهب، لكن انتفاضة تونس هي الأطول زمنا والأبعد مدى، ربما لأن قطاعات في 'الاتحاد التونسي للشغل' ظلت محصنة ضد التغول الأمني، ومزجت دواعي الغضب الاجتماعي بدواعي الغضب السياسي، ثم جاء الدم الشهيد ليزيل الغشاوات عن الأبصار، ويتصاعد بالعصيان السلمي إلى ذروة أعلى، وأيا ما يكون مجرى الحوادث اللاحقة، فلن تعود تونس لما كانت عليه أبدا، ثم ان شرارة تونس تشعل النار في هشيمنا جميعا، ولسبب ظاهر، وهو أنه حتى الحياة الذليلة لم تعد ممكنة، وفي بيئة اليأس الطاغي، يصبح الموت صرختنا الأخيرة، وطاقة العبور لحياة تليق، وعلى طريقة الشهيد محمد البوعزيزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق