يثور مرة اخرى عقب سقوط نظام حسني مبارك نقاش اسباب نشوء الديكتاتوريات في العالم العربي. يرى مهند مصطفى ان 'مشروع الحداثة العربي الذي قاده شبان من الطبقة الوسطى قطعته القوى الاستعمارية الغربية من الخارج، والعربية من الداخل (وفي أعقاب ذلك) تولت الحكم نظم مستبدة كان أكثرها مواليا للغرب' ('في العمى الاستشراقي'، 'هآرتس'، 13/2). أي ان المذنب هو الاستعمار الغربي وعملاؤه. أحق هذا؟.
أُنشئت الديكتاتورية في مصر إثر ثورة 'الضباط الأحرار'، التي أفضت الى النظام الاستبدادي المعادي للغرب، لعبد الناصر. حلت هذه الديكتاتورية محل نظام ملكي ليبرالي موال للغرب، كان فاسدا مختلا في الحقيقة لكنه أقرب للديمقراطية من كل ما أتى بعده. كانت ديكتاتورية عبد الناصر أقسى كثيرا من سلطة وريثيه المواليين للغرب: أنور السادات الذي أجرى تحولا ليبراليا وتحولا مواليا للغرب ايضا ومبارك. لم تكن في ايام عبد الناصر حاجة الى تزوير الانتخابات في مصر كما في ايام مبارك: فقد فُرض على الدولة نظام حكم لحزب واحد، وحُظرت كل معارضة. كان غريبا، لكن غير مفاجىء، أن نرى في المدة الاخيرة في الناصرة مظاهرة لنشطاء حزب التجمع العربي الديمقراطي، الذين عبروا عن تأييد الشعب المصري الذي يطلب الحرية والديمقراطية وهم يرفعون صور عبد الناصر الرجل الذي قضى على الحرية التي لا يُستهان بها التي سادت مصر حتى تولى الحكم.
يتوج كثيرون عبد الناصر بتاج محرر مصر من الاستعمار البريطاني. لا ينبغي الاستخفاف بنضال أي شعب من اجل الاستقلال، ومن الطبيعي ان كل من يشايع هذا النضال يحظى بالتأييد الشعبي. لكن الحقيقة ان الاسد البريطاني في بدء سلطة عبد الناصر كان قد أصبح في طريقه الى الخارج. وطىء عبد الناصر ذيله. أما اولئك الذين قادوا نضال الاستعمار البريطاني في ذروة قوته، عندما لم يكن يقصد الانصراف عن أي مكان مثل أناس حزب الوفد فقد أخرجهم عبد الناصر خارج القانون، وأسكت وسجن الى جانب الشيوعيين، الاخوان المسلمين وسائر معارضيه السياسيين من اليمين ومن اليسار.
كان لعبد الناصر امتياز واحد من هؤلاء الذين يسيرون اليوم في مسيرات ويرفعون صورته. فقد آمن في الحقيقة كما يبدو ان نهجه الاستبدادي هو السبيل الوحيدة الى تحديث مصر والعالم العربي. يعلم مُجلّوه اليوم جيدا ان هذه السبيل أفضت الى فشل ذريع. وهم مع كل ذلك مستعدون لتقدير ديكتاتوري فاشل ايضا بشرط ان يكون قوميا بقدر كاف، ويلقون بالمسؤولية عن الاخفاقات على الصهيونية والاستعمار وكيف لا؟.
لم يكن عبد الناصر حاكما فاسدا من جهة شخصية وهذا انجاز غير قليل. لكنه اختار على علم الاستبداد برغم حقيقة انه كان يستطيع بسهولة ان يُنتخب بانتخابات حرة، في البدء على الأقل. على كل حال، أن يُقال ان الديكتاتورية أُنشئت في مصر بتأثير الغرب، لخدمة أهدافه عكس الحقيقة. كذلك لم ينشأ نظام حزب البعث في سورية على يد الغرب ولا يخدم الغرب. عندما خطب عزمي بشارة خطبة التأبين في جنازة الاسد الأب (الذي نجح بعكس مبارك في توريث ابنه السلطة)، امتدح طاغية كان أقسى كثيرا من مبارك ومن عبد الناصر ايضا.
كم تختلف عن كل هذا، وكم هي منعشة وجريئة وتثير الأمل الريحُ التي هبت ايام الثورة من ميدان التحرير ريح ٌ تحمل المسؤولية لا الهرب منها، والامساك بالمصير في اليدين، والايمان الحقيقي بالحرية والديمقراطية. اذا بلغت مصر الديمقراطية في نهاية الامر والعقبات كثيرة في الطريق فسيكون هذا الامر قبل كل شيء بفضل هذه الريح.
هآرتس 17/2/2011
أُنشئت الديكتاتورية في مصر إثر ثورة 'الضباط الأحرار'، التي أفضت الى النظام الاستبدادي المعادي للغرب، لعبد الناصر. حلت هذه الديكتاتورية محل نظام ملكي ليبرالي موال للغرب، كان فاسدا مختلا في الحقيقة لكنه أقرب للديمقراطية من كل ما أتى بعده. كانت ديكتاتورية عبد الناصر أقسى كثيرا من سلطة وريثيه المواليين للغرب: أنور السادات الذي أجرى تحولا ليبراليا وتحولا مواليا للغرب ايضا ومبارك. لم تكن في ايام عبد الناصر حاجة الى تزوير الانتخابات في مصر كما في ايام مبارك: فقد فُرض على الدولة نظام حكم لحزب واحد، وحُظرت كل معارضة. كان غريبا، لكن غير مفاجىء، أن نرى في المدة الاخيرة في الناصرة مظاهرة لنشطاء حزب التجمع العربي الديمقراطي، الذين عبروا عن تأييد الشعب المصري الذي يطلب الحرية والديمقراطية وهم يرفعون صور عبد الناصر الرجل الذي قضى على الحرية التي لا يُستهان بها التي سادت مصر حتى تولى الحكم.
يتوج كثيرون عبد الناصر بتاج محرر مصر من الاستعمار البريطاني. لا ينبغي الاستخفاف بنضال أي شعب من اجل الاستقلال، ومن الطبيعي ان كل من يشايع هذا النضال يحظى بالتأييد الشعبي. لكن الحقيقة ان الاسد البريطاني في بدء سلطة عبد الناصر كان قد أصبح في طريقه الى الخارج. وطىء عبد الناصر ذيله. أما اولئك الذين قادوا نضال الاستعمار البريطاني في ذروة قوته، عندما لم يكن يقصد الانصراف عن أي مكان مثل أناس حزب الوفد فقد أخرجهم عبد الناصر خارج القانون، وأسكت وسجن الى جانب الشيوعيين، الاخوان المسلمين وسائر معارضيه السياسيين من اليمين ومن اليسار.
كان لعبد الناصر امتياز واحد من هؤلاء الذين يسيرون اليوم في مسيرات ويرفعون صورته. فقد آمن في الحقيقة كما يبدو ان نهجه الاستبدادي هو السبيل الوحيدة الى تحديث مصر والعالم العربي. يعلم مُجلّوه اليوم جيدا ان هذه السبيل أفضت الى فشل ذريع. وهم مع كل ذلك مستعدون لتقدير ديكتاتوري فاشل ايضا بشرط ان يكون قوميا بقدر كاف، ويلقون بالمسؤولية عن الاخفاقات على الصهيونية والاستعمار وكيف لا؟.
لم يكن عبد الناصر حاكما فاسدا من جهة شخصية وهذا انجاز غير قليل. لكنه اختار على علم الاستبداد برغم حقيقة انه كان يستطيع بسهولة ان يُنتخب بانتخابات حرة، في البدء على الأقل. على كل حال، أن يُقال ان الديكتاتورية أُنشئت في مصر بتأثير الغرب، لخدمة أهدافه عكس الحقيقة. كذلك لم ينشأ نظام حزب البعث في سورية على يد الغرب ولا يخدم الغرب. عندما خطب عزمي بشارة خطبة التأبين في جنازة الاسد الأب (الذي نجح بعكس مبارك في توريث ابنه السلطة)، امتدح طاغية كان أقسى كثيرا من مبارك ومن عبد الناصر ايضا.
كم تختلف عن كل هذا، وكم هي منعشة وجريئة وتثير الأمل الريحُ التي هبت ايام الثورة من ميدان التحرير ريح ٌ تحمل المسؤولية لا الهرب منها، والامساك بالمصير في اليدين، والايمان الحقيقي بالحرية والديمقراطية. اذا بلغت مصر الديمقراطية في نهاية الامر والعقبات كثيرة في الطريق فسيكون هذا الامر قبل كل شيء بفضل هذه الريح.
هآرتس 17/2/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق